“بل كان يقرعُ صدره قائلاً: اللهمّ ارحمني أنا الخاطئ”
يوضح لنا المسيحُ في النصّ الإنجيليّ نقيضَين، الفريسيَّ والعشّار. كان الأوّل يبدو للناس تقيّاً على خلاف الثاني. في حين كان الفريسيّ مترفعاً، حاول أن يبرّر ذاته بأعماله، راح العشّار متنهّداً يطلب من الله أن يبرره. الفريسيّة هي سرطان العبادة، مرضٌ يفتك بها، أمَّا الروح العشّاريّة فهي عافية محيية، وتقوى حقيقيّة. أنّ “هذا العشار نزل إلى بيته مبرَّراً دون ذاك الفريسيّ” هي حقيقة تطرح علينا أسئلة حول حقيقة عبادتنا وتقوانا لا حول شكلها، وحول الطريق الحقيقية أي التبرير الإلهيّ بدل التبرير الذاتي.
فما هي إذاً التقوى الحقيقيّة، وما البرّ أو التبرير؟ وأخيراً كيف نقتنيه؟ ليس عبثاً أنّ المسيح قارن بين الإنسانَين على ميزان المعبد، فالصلاة تكشف الداخل وتعكس الإنسان على حقيقته. وسرّ التقوى يحدّده القدّيس بولس الرسول بتجسّد المسيح، عرس الإنسان بالله واتحاده به.
تبقى الأعمالُ مجرّد أعمال، عندما تكون مجرّد تقدمات. لكن عندما نبذلها في سبيل الاتحاد بالله تصير فضائل حقيقيّة. وهذا التمييز ضروريّ بإزاء أهمّ صوم وأهمّ فترة روحيّة في بداية التريودي القادم.
الفضائل ليست أعمالَنا، وإنّما هي عمل الروح القدس فينا. الحياة الروحيّة ليست الحياة الأخلاقيّة بالمعنى الحصري والشائع للكلمة، ولكنّها الحياة بالروح الذي يحرّكنا. الإنسان الروحيّ هو الذي أخضع جسده لروحه، وأخضع روحه لروح الآب القدّوس. وأعمال هذا الإنسان بارَّة، إنّها ثمار هذه الحياة. وبرّ هذه الحياة هو العلاقة الحيّة مع الله والاتحاد به.
يقول القدّيس بالاماس: “كلّ ما يتمّ بواسطتنا دون أن يكون عملاً لله فينا هو خطيئة”. لذا فإنَّ الطريق إلى البرّ ليست “الاستحقاق” والإنجازات والأعمال… وإنّما “الانسحاق”، والباقي يعمله الله فينا. ما يحدّد برّنا هو مقدار اتصالنا بالربّ يسوع. البرّ هو القداسة، والقداسة تألُّه، والتألُّه ليس الأعمال الأخلاقيّة، وإنّما الاتحاد بالله الذي لا يتّحد إلاَّ بأنقياء القلوب.
لذا فإنَّ الطريق العمليّة- كما ينصح كتاب تعاليم روحيّة- للتبرير، هو لوم الذات لا تبريرها، والانسحاق لا العُجُب. كلّ من الفريسيّ والعشّار كانا معجبَيْن، فالأول أُعجب بذاته أما الثاني فبرحمة الله ومحبّته.
يبرِّرنا لومُ الذات لأنه “عافية سرِّية”، أمَّا تبرير الذات فهو سرطانٌ خفيّ. لوم الذات هو سرٌّ يحدث حين نلتقي بالمسيح في خشوعٍ وتنهّدٍ عشاريّ. تبرير الذات سرطانٌ فريسيّ يلاقينا بذاتنا ويفصلنا عن الله. فلنقف ونصلِّي عشّارياً: “يا الله اغفرْ لي أنا الخاطئ وارحمني”.
هذه هي أبواب التوبة، ومن دخل من غير هذا الباب فهو سارقٌ ولص،
هذا هو باب السماء. آميــن