في الأحد الثالث من الصيام المقدّس وخلال الأسبوع الرابع الذي يليه أي وسط الصيام ترفع الكنيسةُ الصليبَ المكرّم للسجود.
بالطبع، حين نقبّل الصليب نسجد له من ناحيةٍ مكرّمين، ولكن نسجد أيضاً للسّر الأزليّ الذي يحمله والذي اكتمل في ملء الزمان عند صلب المسيح.
الصليب هو سرٌّ أكثر ممّا هو أيقونةٌ للصلْب. سرّ الصليب هذا هو سرّ الانتقال من المعاناة إلى وجه الله. ولهذا السبب بالذات رفعت الكنيسةُ الصليبَ في منتصف الصيام، الصيام الذي غايته الأخيرة هي رؤية الله ومجده. قراءات الصوم من العهد القديم تركّز على شخصَي موسى وإيليا، وكيف كلٌّ منهما صام عندما أراد أن يرى وجه الله. هذه غاية الصوم، وأداة ذلك هو سرّ الصليب.
إنّ المسيحَ الدجّال، عدوَّ الله والإنسان، لم يأتِ بعد لكنّه كان في العالم، كما يقول يوحنا الحبيب” هناك مسحاء دجّالون كثيرون”. وبولس يقول “سرّ الإثم الآن يعمل”. فكما أنّ “سرّ الضلال” كائنٌ في العالم قبل أن يأتي المسيح الدجّال، هكذا سرّ الصليب هو منذ الأزل قبل الصلْب. الربّ يسوع نفسه، وقبل حدث صلبه، خاطب تلاميذه: “من أراد أن يتبعني فليحملْ صليبه وينكرْ بنفسه ويتبعني”. فالصليب كسرٍّ كان ويستمرّ. صليب المسيح هو كماله ومنعطف بدايةٍ جديدةٍ فيه.
للصليب كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم وجهان، وذلك بحسب عبارة بولس الرسول، إذ لا يقول فقط “الذي به صُلبَ العالمُ لي”، بل يضيف “وبه أنا صُلبتُ للعالم”. يُصلب العالمُ لنا، يعني أنّنا نترك ما في العالم من شهواتٍ وننصرف إلى الجهادات النسكيّة في طلب رضى الله وحفظ وصاياه مفتقرين بالروح إليه. وهذه المرحلة تعرف بالمرحلة الروحيّة الأولى المسماة بالعمل (Praxis). أما أن نُصلب نحن للعالم، فهي المرحلة اللاحقة والناتجة عن الأولى، أي حين نموت نحن عن العالم، حين يتنقّى الإنسان من أهوائه ولا يعود العالم في ملذّاته يؤثّر به. حين تنصلح الأهواء وتأخذ لها ميولاً صحيحةً لا تعود ملذّات العالم لذيذة. آنذاك، في هذه المرحلة يقتني الإنسان الفكرة الصحيحة عن الجمال وعن الغنى والفقر وعن اللذة، ألا وهي العفّة. ويموت الإنسان، بتطهّره عن أهوائه الخاطئة، عن العالميات. وهذه المرحلة هي المرحلة التي تؤهّل الإنسان لرؤية الله لأنّ أنقياء القلوب هم الذين يعاينون الله، وهي ما تسمّى الثاوريّا (Theoria).
فالوجه الأول للصليب دائماً هو وجه الأتعاب وإماتة الأنانيّة والذات في سبيل طلب وجه الله، إنّها مرحلة موت الإنسان العتيق، وهي ما تسمّى مرحلة العمل (Praxis). أما الوجه الثاني فهو حالة معاينة الله ومعاينة وجهه المنشود، وهو ما يسمّى بمرحلة قيامة الإنسان الجديد أي الثاوريا (رؤية الله ومعاينته). لذلك تعترف الترانيم للأبرار أنّهم بالعمل وصلوا إلى الثاوريا. وهذا ما يعبّر عنه بولس الرسول بوجهَي الموت والقيامة مع المسيح على الصليب. فالوجه الأول للصليب أي الموت، يجلب فوراً وجهه الثاني، القيامة. هذا هو سرّ الصليب أنّه ينقلنا من الأتعاب إلى معاينة الله (الثاوريا) أي من وجهه الأول إلى وجهه الثاني.
لهذا يؤكّد القدّيس غريغوريوس بالاماس، المدافع عن النعمة اللامخلوقة وعن رؤية النور الإلهيّ ووجه الله، أنّه لا يستطيع أحدٌ معاينة الله دون الصليب، كما يشرح كيف أن كلّ من حمل الصليب في سرّ المعاناة من أجل وجه يسوع المسيح قد رآه.
قبل المسيح، حمل إبراهيم، أبو المؤمنين وخليل الله، أتعابَ الصليب حين أطاع الله وترك أهله وعشيرته منطلقاً إلى الأرض التي سيُريه إياها الله، وعاش سرّ الصليب في وجهه الأول ولهذا إبراهيم أيضاً، رأى الله الثالوث واستقبل الملائكة الثلاثة أي الوجه الثاني.
ويعقوب أيضاً، كانت حياته كلّها صليباً مستمراً في خدمته الطويلة من أجل طاعة أهله واختياره فتاةً بحسب مشيئتهم. أضف إلى ذلك صبره على عداوة أخيه وتواضعه حين انحنى إلى أسفل العصا أمام أخيه عيسو. إنّ أتعاب سرّ الصليب هذه قادته ليصرخ يوماً “لقد رأيت الله وجهاً لوجهٍ وخلصت نفسي”.
وموسى شارك في سرّ الصليب الأزلي حين ترك فخر البيت الفرعونـيّ، وحين اعتبر عار المسيح أشرف من كنوز فرعون، كما يقول بولس الرسول. وحين بالعود والماء عبر مع بني قومه البحرَ الأحمر وتاهوا في البريّة سنين طويلة. وبالأصوام وكلّ تلك الأتعاب شاهد الوجه الثاني للصليب، فعاين الله في العليقة الملتهبة وغير المحترقة.
هكذا كلّ من نظر إلى الصليب من وجهه الأوّل لا بدّ أن يعاين وجهه الثاني، أي كلّ من مات مع المسيح سيقوم معه أيضاً. وهذا تماماً ما يعنيه الربّ بقوله “كلّ من بذل (صلَبَ) نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل وجدها (أقامها)”. لذلك يدخل المسيحيّ الصوم بجرأةٍ ولا يحزن على ذاته ويطلب الموت من أجل الربّ كلّ لحظةٍ فيحقّق سرّ قيامته.
الربّ يسوع هو القيامة والحياة، والصليب هو الطريق. سرّ الصليب هو اتباع يسوع والسعي إلى وجهه الكريم. هذا ما نسجد له أمام الصليب.
فيا قوّة الصليب الكريم، المحيية الإلهيّة التي لا تدرك، لا تخذلينا نحن الخطأة. آميــن