عيد العنصرة

pentecost

الروح والعالم بين العلية وبابل

 “فكيف يسمع كلّ واحدٍ منا لغته التي ولد فيها”

 هناك حدث هام جدّاً تمّ في العنصرة وهو “تفاهم البشر”! فحين امتلأ التلاميذ يوم الخمسين من الروح القدس “طفقوا يتكلّمون…” وتحيّر الجمهور المجتمع من كلّ أمّة على وجه الأرض، من الفريتيّين والماديّين والعيلاميّين… والكريتيّين والعرب” وقالوا: “كيف نسمع كلّ منّا لغته التي ولد فيها”، أليس جميع هؤلاء المتكلّمين (الرسل) جليليّين؟

كيف فهم كلّ هؤلاء المجتمعين، وهم يتكلّمون بلغات مختلفة عديدة، كلام الرسل يوم العنصرة؟ هناك عدة احتمالات… أوّلاً أنّ المجتمعين بفضل الروح القدس فهموا كلّهم لغة الرسل الواحدة (الجليليّة- العبريّة). أو ثانياً أنّ كلّ رسول صار يتكلّم –بنعمة الروح- لغات كلّ تلك الأمم. أو ثالثاً كان هناك نوع من أعجوبة “ترجمة فورية” بحيث كان الرسول يتكلّم العبريّة وللفور كان تصل الكلمات لكلّ واحد بلغته.

يورد النصّ عبارة “وطفقوا يتكلّمون بلغات أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا”. بداية هذه (العبارة) للوهلة الأولى، توصي أن الاحتمال الثاني هو الوارد. أي أنّ كلّ رسول صار -بفاعليّة الروح- يتكلّم كلّ اللغات! ولكن السؤال هنا هل كان الرسول، إذن، يتكلّم ويعظ باللغة العبريّة أوّلاً، ثم العربيــّة، ثم… مثلاً؟! مسار النصّ يوحي أن الرسول كان يعظ وعلى الفور كان الجميع يفهمون كلامه كلّ بلغته الخاصّة!

هناك تفسير آبائي يعتمد على القسم الثاني من الآية، أي على “كما أعطاهم الروح أن ينطقوا”. ماذا جرى إذن؟ هل هناك احتمال آخر عن الاحتمالات السابقة؟ وكيف نفهم هذا “التفاهم” الفوري؟ هل هناك لغة جديدة لا تؤثر عليها “الألسن” البشريّة المختلفة والعديدة، وبهذه اللغة نطق الروح في الرسل؟ الجواب هو نعم! عندما حلّ الروح القدس وامتلأ التلاميذ روحاً تكلّموا بالطبع بلغتهم التي روحنها الروح وتفاهم الجميع معهم وفهموا عليهم. إنّها حالة –ربّما ولو بتعبير تفسيريّ- ترجمة روحيّة مباشرة.

يتكلّم القدّيسون لغة واحدة رغم تغاير الألسنة واللغات. نظرة سريعة إلى تقليدنا المسيحيّ الشريف الطويل تدلّنا تماماً كيف تكلّم القدّيسون كلاماً واحداً وكل بلغته الخاصّة. هناك روايات عديدة في تقليدنا الرهباني يتلاقى فيها قدّيسون مع “أجانب” عن لغتهم التي يعرفونها، ويتحادثون! تماماً كما جرى في العنصرة. هذه الحالة الروحيّة هي حالة استثنائيّة تفترض أن نمتلئ من الروح القدس. وهذا ما تمّ يوم العنصرة ويمكن أن يتمّ أي يوم في “ملء الروح”.

لذلك في تقليدنا وفي ترانيم عيد العنصرة هناك مقارنة واضحة بين حدث “بابل” وحدث “العليّة”، بين “تبلبل الألسنة واللغات” في بابل وبين “أن يفهم كلّ منا بلغته الخاصّة”. عندما تزايدت شرور البشر على الأرض وطرد الناس الروح وتمسّكوا إنما… بالجسد، عندها يروي الكتاب، شاء الله أن يختلف الناس بلغاتهم -ألسنتهم- ويتفرّقون إلى شعوب وأمم لا تتفاهم الواحدة مع الأخرى. في بابل تمّ التمزّق البشريّ، في العنصرة “الاتّحاد”. عالمنا اليوم مشدود من الطرفين، بين التمزّق وعدم التفاهم وبين الوحدة والتآخي.

لماذا تتعدّد الألسنة وينقطع التفاهم؟ الظاهرة التي تتجلّى في تعدّد اللغات؟ هناك أناس لهم المفاهيم ذاتها ولكن بسبب من لغاتهم المتعدّدة مثلاً لا يستطيعون أن يتفاهموا. وهناك أناس لغتهم واحدة لكن مفاهيمهم متغايرة، وهؤلاء أيضاً لا يتفاهمون. ما تمّ في العنصرة، هو أنّ الامتلاء من الروح غلب تعدد اللغات، ان الوحدة بالروح حقّقت التفاهم رغم تغاير اللغات.

تتعدّد الألسنة ويتوقّف التفاهم بالأساس بسبب من تغاير الغايات بين البشر واختلافها. عندما تكون أهداف البشر متضاربة أو متغايرة أو غير متشابهة عندها لا تفيد حتّى اللغة الواحدة، ولا معرفة اللغات أيضاً.

أسباب التمزّق البشريّ وقطع التواصل عديدة وأهمّها أوّلاً الإيديولوجيّات المختلفة والمتنوعة، والتي تظهر في السياسة والدين وجذور الحضارات الإنسانيّة. فينْعت تيّارٌ الآخرَ “بالضلال” ويُنصّب تيّار ذاته كالـ”الهادي”. وتتصارع وتتسابق التيّارات في اقتناص الأسماء الرنّانة، ونراها في النهاية تفرّق وتصنّف الناس، وللأسف أحياناً تمزّق. كأن أتباع هذا الدين أو ذلك الحزب هم لنظيرهم أعداءٌ أو منافسون!

وحين تتضارب المصالح، بعد تعدّد الإيديولوجيّات، فإن اللغة الحقيقيّة المبطّنة وراء سطور كلّ اللغات هي لغة المكر والرياء. وكيف سيتّحد الناس ولا تجمعهم المحبّة، ولو وحّدت فيما بينهم مسائل كاللغات أو سواها من المعطيات المشتركة بينهم؟ وهنا يمكننا أن نلاحظ فكر الإعلام والدعاية، التي صارت قادرة في أيامنا، وهي أيّام أوجها، أن تقيم الباطل وتهدم الحقّ. ولغة الدعاية لا توحّد يوماً بين كلّ الناس بل تُخضع طرفاً لآخر وتقيم الأول على الثاني، دون أن تكون الحقيقة دائماًَ هي المعيار، بل السلطة فيها للقويّ والقادر.

“الروح يقود إلى اتّحاد واحد” تقول ترانيم العيد. نحن في عالمنا اليوم أحوج إلى عنصرة منها إلى دعايات أو أيدولوجيّات.. نحن بحاجة لشهادة الكنيسة الحيّة التي ليست هي مجرّد كلمات وإنّما فعل عنصرة دائمة في التاريخ. على الكنيسة أن تجعل العنصرة دائمة. أي أن يكون الناس ممتلئون من الروح القدس فلا تفصل بينهم ألوان اللغات ما دام ما في القلب واحد، وهو المحبّة والسّلام والفرح وكلّ ثمار الروح.

لن نكون واحداً إذا “امتلأنا من الروح القدس”. المكان الذي سيلتقي فيه الناس ويتكلّمون بلغة واحدة هي “حيّز القداسة” والقلب الطاهر الذي يقبل “ندى الروح المتنسّم ناراً”.

العنصرة هي كمال التدبير الإلهيّ، لقد تجسّد يسوع ومات وقام ليؤسّس كنيسته التي هي مكان إرسال الروح القدس. غاية الكنيسة هي تأهيل النفوس لسكب الروح، روح الحقّ. الكنيسة برج محبّة نبنيه بدل برج بابل.

روح المصالح وأرواح الإيديولوجيّات لطالما مزّقت البشر. وروح الحقّ، الروح القدس، “يجمع الكلّ إلى اتّحاد واحد”!

فيا أيّها الملك السماويّ المعزّي روح الحقّ… هلمَّ واسكنْ فينا.

آميــن

الإعلان

One response to “عيد العنصرة

  1. هي كلمات تريد لفت الانتباه أن روح الله قادر أن يوحِّدنا جميعا على اختلافاتنا لعدم وجود تضارب في الغاية ، بينما لم تستطع كل وجهات النظر الرائجة حول أصقاع العالم أن ترفع عاملا مشتركا يجنب الجنس البشري من الآلام، بنما هم على بعد خطوة الواحد عن الآخر رغم كل الاختلافات التي تبدو .
    نحن بانتظار المزيد، و بحاجة للمزيد من هذه الروحانية المتعدية بمحبتها للأعراق و المعتقدات، و التي ترى الله الواحد في كل آخر يعيش حولها.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s