متى 22، 15-23، 39
الثلاثاء العظيم (في السحر)
ديناميكية المحبّة والعدم الفريسيّ
في صلاة الختن الثانية لسحر الثلاثاء العظيم المقدّس تضع الكنيسة المقدّسة أمامنا تذكار مَثَل العذارى العاقلات. والنصّ الإنجيليّ الذي سمعناه يُقسَم إلى قسمين:
القسم الأوّل هو جدالٌ بين يسوع وبين فئات مؤمني عصره. وفي هذا الجدال طَرحَ عليه الفريسيّون أسئلةً محرجةً ليمسكوه بكلمةٍ، كما بموضوع الجزية. وجاء الصدوقيون يسألونه عن الزواج بعد القيامة العامة بمنطق الجدل العقيم، وأخيراً سأله معلّم: ما هي أعظم الوصايا. والصورة المعاكسة للمشهد السابق نراها في التقليد الرهباني. يأتي الرهبان إلى معلّمٍ وشيخٍ في البرية ويطرحون عليه سؤالاً واحداً: “يا معلّم قُلْ كلمةً لأخلص”. قُلْ كلمةً لنحياها فنحيا. يوضّح لنا المشهدُ الإنجيليّ الذي رأيناه إلى أيّ انحطاطٍ روحيٍّ قادَ الدينَ قادةُ الدين. لقد توصلوا بالدين إلى الخلاف مع ربّ الدين. إنَّ الله يكره ديناً كهذا، الذي بدل أن يكون حلقةَ وصلٍ صارَ عقبة فصلٍ بينه وبين من اشتراهم بدمه الكريم.
أمَّا القسم الثاني فيحتوي على الويلات السبع الشهيرة التي وجّهها الربّ لمتديّني أيامه هؤلاء. وهذا يدلّ على أنَّ يسوع لم يكن راضياً عن الوضع الدينـيّ لهم. وجَّه يسوعُ هذا التأنيب الشديد إلى الفريسيّين بالذات لأنّه كان يحبُّهم ويعجب لممارساتهم الدينيّة الدقيقة، ولكنّه في الوقت ذاته كان يأسف عليهم إذ أنْهَوا قداستهم عند حدود الفريسيّة.
مضرّ هو الإلحاد وتجاهل الله، والأضرّ هو الإيمان الموبّخ من الله. الله محبة، فهو حركة. لا يقبل الله حبّاً فريسياً جامداً لا عشق فيع إليه! أين نحن في عبادتنا؟ نستحقّ أمانة العبد الصالح أم الويلات للفريسيين؟ أعبادتنا عشقٌ ديناميكيّ أم فريسية ستاتيكية؟
“اسهروا” هذا هو نداء صلاة الختن الثانية. على أيِّ أمرٍ نسهر؟ على عبادتنا بالذات، لكي تكون حقيقيّةً لا سطحيّةً. لا يفيد تعشير النعنع حين ننسى العدل والرحمة. هذا هو الخطر الذي يهدّد المؤمن، أن “ينام إلى الموت”، تكريمُ وتفضيل التقدمات على المذبح الذي يُقدِّسها؛ وتفضيل الهيكلِ على الساكن فيه؛ تصفية البعوضة بينما نبلع الجَمل؛ تنقية خارج الكأس بينما داخلها مملوء خطفٌ ودعارة… كلّ هذه مظاهر للمرض الأساسيّ. إنّها عوارض السرطان الروحيّ الذي يهدّد الإيمان في كلّ زمن. أمَّا المرض فهو تحديد العلاقة مع الربّ الذي يحبّنا بعلاقة الواجبات. حينذاك يبدأ “بازار” المقايضات، والتنازلات، والتبرير وينقلب الدين من سلّمٍ مُصعِدَةٍ إلى الله إلى حلقة تبرير الذات. مَنْ يعتقد أنّه أوفى اللهَ حقَّه يعني ضمناً أنّه لا يريد أن يحبّ أكثر! والمحبّة التي لا تريد أن تزيد هي كاذبة. المحبّة عكس الواجب. الثاني يعرف حدوداً أمَّا الأولى فلا تعرف إلاَّ طلب الأكثر. المحبّة عشقٌ، من بدأها ازدادت فيه، ومن لم تزْدَدْ فيه لم يعرفْها.
هل تطبيق الوصايا بكاملها يعني إذاً عدم الحاجة إلى توبةٍ؟ نعم، هذا هو مرض فريسية الدهور. من وجهة نظرٍ مسيحيّةٍ حقَّة، إنَّ حفظ الوصايا يقود إلى التوبة. حفظ الوصايا يجعلنا أسرع في التوبة وأحرّ في المحبّة. ما نعرفه عن الذين تقدّموا في الروح أنّهم تابوا أكثر. يقول بولس الرسول عن ذاته: “أنا أخطأ الناس”! المسيحيّة تعني حبّ الختن ومشاركته في رسالته وآلامه، فإنّنا كلّما ولجنا في هذا الفردوس كلّما أدركنا وسع مداه… هذا هو فردوس الحياة مع الله، إنّه جمال ديناميكيٌّ، كلّما عاينّا منه أدركنا بعدَنا عنه واشتقنا إليه أكثر.
صراع الربّ إذاً مع متديِّني أيامه لم يكن حول النعنع أو التعشير… بل حول تجميد حبّه لنا وحبّنا له في حدود. هذه هي ديناميكية العلاقة مع الله؛ حين تبدأ بشكلٍ صحيح، مكتوبٌ لها ألاَّ تقف، بل أن تنمو وألاَّ تنتهي. هذا ما تعنيه محبتنا لله، أنّنا نزداد في حبّه. المحبّة الجامدة الستاتيكية كاذبة. الرضى عن الذات خدعةٌ تعني أنّنا لا نريد أن نحبّ بعد أكثر. وهذا يعني أنّنا لا نحبّ فعلاً. المحبّة طاقة وليست كميّة. وجودها يعني حركتها.
فَليَعُد كلٌّ مِنَّا إلى ذاته ليفحص طبيعة علاقته بالله، والتي غالباً ما نسمّيها واجبات. لنمتحن الصلاة، والصوم، والسجدات، والإحسان، والواجبات نحو القريب ونحو الأولاد والأهل… هل الواجبات كلّها هي الغاية المحدّدة، وبالتالي لها حدود تستطيع أن تنتهي عندها؟ أم هي فعلاً أداةٌ تقودنا إلى ديناميكيّة الحبّ الإلهيّ الذي يقوم جماله دوماً على ازدياده؟
إن كنَّا نعتقد أنّه علينا أن نصلّي عشر دقائق، أو ساعة، أو ساعات، فإنّنا لا نعرف ما معنى الصلاة. أستطيع أن أبدأ بالدقائق، وهذه بذرة الصلاة التي ستنتهي بسنابل الصلاة الدائمة. لغة العشق هي طلب “الأكثر”.
كلنا نحبّ الله، ولكنّ الخدعة التي تجعلنا “ننام إلى الموت” هي أنّنا نرسم لهذا الحبّ حدوداً، فنقلبه بالتالي إلى واجباتٍ بينما الغيرة والعطش الدائم. فلنسهر إذاً على عبادتنا بالذات!
إذا دخلنا المعبد وصلّينا، ولم نخرجْ بعدها ملتهبين أكثر بحبّ الله، فنحنُ لم نُصَلِّ. وإذا صمنا الأصوام كلّها ولم نتعشَّق منها وجه المسيح فقد عذّبنا الجسد عبثاً. عندما سأل الفريسيُّ المسيحَ عن أعظم الوصايا، أجابه: “المحبّة”، التي هي غاية كلّ تلك الوصايا.
يشرح الذهبيُّ الفم لماذا سمّى المسيحُ العذارى الخمس جاهلات. ليس لأنَّهنَّ لم يحفظنَ الوصايا، بل بالتمام لأنَّهنَّ حفظنَ الوصايا كلّها، حتّى أصعبها غير المطلوبة من الجميع كالبتولية، لكنّهنَّ نَسَيْن الأهم: المحبّة. صارت الأداة عندهنَّ غاية تماماً، كحين يتألّه الدين ليقتل الإله. العبادة مجرّد أداةٍ والله هو الغاية. الدين كواجبٍ هو فريسيّةٌ ظالمةٌ تُضَيِّع الأتعاب عبثاً، أمَّا المسيحيّة فهي عشقٌ يجعل الأتعاب خفيفة.
يرى القدّيس غريغوريوس بالاماس في مصابيح العذارى العاقلات أنَّ المحبّة هي الفتيل، والزيت هو أعمال الفضائل، والشعلة هي نعمة الروح القدس. عندما ينقص زيت الأعمال تنطفئ المحبّة وتختفي شعلة الروح القدس.
“فلنفعم يا إخوة الختن حبّاً ولنهيّئ مصابيحنا لامعين بالفضائل
لكي مثل عذارى الربّ نلج مستعدّين معه إلى العرس”.آميــن
من كتاب سفر الكلمة- الجزء الأول
للمطران بولس يازجي