تأمل في رسالة الأحد الأول بعد العنصرة – شـركةُ القدّيسـين

شـركةُ القدّيسـين

عب 11، 33- 12، 2

الأحد الـ 1 بعد العنصرة (أحد جميع القديسين)

“ونحن إذ لنا مثل هذه السحابة من الشهود لنلقِ عنّا كلّ ثِقَلٍ والخطيئة…”

رتّبتْ كنيستُنا المقدّسة أن نعيّد، في الأحد الأوّل بعد عيد حلول الروح القدس في العنصرة، لثمار عمل الروح، أي تقديسه للمؤمنين، أي لعيد جميع القدّيسين. ما يميّز الإنسانَ عن سائر الكائنات الحيةّ الأخرى (الحيوانات) هو أنّه “غير محدود الحدود”. فعلى سبيل المثال حيوانٌ كالقرد، يولد قرداً صغيراً وينمو ويصير كبيراً، ولكن ما يختلف فيه أمرٌ واحدٌ  إذ تكبر صفاته، يصير ربّما قرداً أقوى، أسرع، أثقل… ولكنّه يبقى في سلوكه هو هو قردٌ. أمّا الإنسان وإن كان يولد إنساناً طفلاً، فإنّه عندما يكبر لا تزداد فقط بعض عناصره مثل القوّة أو الوزن، ولكنّه يبدأ يأخذ شخصيّة مميّزة. للإنسان بُعد آخر غير طبيعته البشريّة، إنّها طبيعته الروحيّة الإنسانيّة. فمسلكيّة الإنسان الناضج والكبير تختلف كثيراً من شخص لآخر. بينما تقود الغريزة العالم الحيوانيّ، فتبقى مسلكيّة الحيوان الصغير كالحيوان الكبير، فإنّ الحريّة الأخلاقيّة هي التي توجّه العالم البشريّ، لذلك تختلف كثيراً مسلكيّة الطفل عن الشاب، وهذا الشاب عن ذاك. ويتراوح هذا الاختلاف من أسمى الأشكال إلى – وللأسف- أدناها. فمثال العذراء التي نسمّيها أرفع من الملائكة يقابله أمثلة وصل فيها البعض لمسلكيّات لا تقوم بها أبشع الحيوانات، وكما يقول بولس، “فإنّ أفعالهم التي يقومون بها سرّاً لا يمكن ذكرها”.

لهذا نحن نعيّد للإنسان ونقيّمهفي يوم وفاته (ما حصل) وليس من يوم ولادته. نقيّم الإنسان مما حصّلَه وليس مما أُعطي له! فالطفل هو جبلة بطاقات، لا تقيَّم من نشأتها وإنّما من نهايتها. الإنسان يقيَّم إذا كان شريراً أم صالحاً، محسناً أم متسلّطاً، وليس من طبيعته البشريّة. ليست قيمة الإنسان بطبيعته بمقدار ما هي في مُثلِه التي يحبّها. يقدَّر الإنسان من الأهداف التي ينشدها ويدركها. قيمة الإنسان في خياره. لذلك تشجّعنا الكنيسة دوماً أن نضع “جميع القدّيسين” نماذج لنا نقتدي بها ونسابقها!

القدّيسون هم الصفحات الشريفة من التاريخ البشريّ، إنّهم التاريخ المقدّس عبر تاريخ بشريّ طويل، لأنّهم ثمر الروح القدس في التاريخ، إنّهم “قطاف الزمان” ومحصّلته. القدّيسون هم، بحسب الطقس الكنسيّ لصلاة هذا الأحد، بواكير الخليقة، إنّهم أولاد قرانِ الروح بالعالم في العرس الإلهيّ الروحيّ (القنداق). القدّيسون هم زينة الكنيسة ووجهها إلى الله وإلى العالم، غيابُهم يفقدها هويّتَها ووجودُهم يعطيها شخصيّتها الإلهيّة في وسط العالم.

واليوم في هذا التذكار المقدّس يجدر بنا التأمّل في عدّة أسئلة تساعدنا على فهم “شركة جميع القدّيسين” لننتمي إليها:

مَن هو القدّيس؟ لا شكّ أنّه بالطبيعة ما هو إلاّ مجرّد بشر! لا يختلف بذلك عن أيّ إنسان آخر شرّير! ما يختلف في القدّيس ليس طبيعته ولكن طبعه، ليس خِلقته ولكن خلقه، ليس معيشته بل حياته، إنّه إنسانٌ يحيا حياةَ الله في جسده البشريّ. القدّيس هو مَن يحيا بالروح القدس الذي يحرّكه ويقوّيه ويقوده إلى الحقّ، “فالبارّ بالإيمان يحيا”، وهذا يُدرَك ليس بشكل أوتوماتيكيّ، ولا بمجرّد خيار نظريّ، بل بجهاد ومحاولة لا تنقطع. إنّ تكوين القدّيس من طين، أي إعادة تكوين الجبلة البشريّة التي هي مجرّد اللّحم والدمّ إلى خليقة ملائكيّة، يحتاج لمسيرة طويلة ويتطلّب جهداً ليس بقليل. لذلك إنّ تنشئة الكائن البشريّ إلى قدّيس تحتاج إلى معرفة روحيّة عميقة نسمّيها “الإيمان”، وإلى محاولة لا تهدأ نسمّيها “الجهاد” الروحيّ. هذا هو القدّيس، مَّن يتمسّك بالإيمان ويعمل حسبه دون ملل.

ما هي أشكال حياة القداسة؟ إنّها طرق عديدة ولا تحصى! ولكن التقليد الكنسيّ صنّفها في مراتب. فالمثل البشريّ الأعلى والأوّل للقدّيسين هو “العذراء مريم”، ويليها شخصيّات أوّلها يوحنّا المعمدان، ثم تتوالى مراتب كالرسل والأنبياء والمعلّمين، وبعدهم رؤساء الكهنة، وبعدهم الشهداء ثمّ الأبرار والمعترِفين. هؤلاء كلّهم عاشوا حياة الله في ظروفهم وطبيعتهم وأعمالهم وبلادهم وثقافاتهم وخدماتهم وأعمالهم المختلفة. القداسة غاية ممكنة للمرأة كما للرجل، للعبد كما للحرّ، لإثنيّة كما لأخرى، في وسط العالم وخارجه، في شهادة دم وفي شهادة الضمير، وكما يلّخصها بولس الرسول “إنّنا نماتُ من أجلك اليوم كلّه”. هذه هي حركة ومسيرة القداسة، فهي في ظروف اضطهاد تنتهي بسكب دم، وفي زمن السلام تنتهي بحياة البرّ، وفي خدمة رسوليّة تنتهي برؤساء كهنة ومعلّمين وخدّام رسل ومبدعين ورجال فكر… الدعوة للقداسة ليستْ حصراً على فئة أو طريقة حياة محدّدة بين الناس. “كونوا قدّيسين كما أنّ أباكم السماوي قدّوس” (كاملين)، إنّها دعوة لا تستثني أحداً، إنّها غاية الحياة البشريّة لكلّ إنسان ولكلّ طرق الحياة.

كيف نُكرم القدّيسين؟ لا شكّ أنّنا نكرم مَن نحبّ “ونضع السراج عالياً ليضيء لجميع مَن في البيت”. لهذا ترانا نرسم أيقونات للقدّيسين ونزيّن بها منازلنا وكنائسنا، ونُحيي تذكاراتهم بالصلوات والطقوس… ونبني الكنائس والأديار على أسمائهم، ونتسمّى بأسمائهم، ونطلب شفاعتهم ونتّكل عليهم… وبكلمة مختصرة نشاركهم حياتنا وهمومنا وحاجاتنا. هذا أوّلاً.

الذهبيّ الفمّ يقول “إكرام القدّيس هو الاقتداء بالقديّس”. هكذا ثانياً إذن، لا نشارك القدّيس همومنا وحسب، بل نشاركه قداسته، ونشهد معه ونحيا مثله. إذن إكرام القدّيسين هو قبول دعوة مَن دعاهم ودعانا، فندخل في “شركة القدّيسين” ولا نُكرم جميع القدّيسين بالطلب أو الإكرامات وحسب.

لذلك يقول بولس الرسول في ختام المقطع من الرسائل اليوم، بعد أن عدّد ألقاب “جميع القدّيسين” وإنجازات إيمانهم: “فنحن إذ يحدق بنا مثل هذه السّحابة من الشهود (الأمثلة الحيّة) فلنلقٍ عنّا كلَّ ثِقَلٍ والخطيئة المحيطة بنا بسهولة”.  نعم، وحدها الخطيئة تخرجنا من “شركة القدّيسين”! حياة القداسة لنا نحن حيث وكما نحن في أعمالنا وخدماتنا لكن بشرطَين، اللذَين يذكرهما هنا بولس: أوّلاً أن نلقِ عنا الخطيئة وثانياً أن نتسابق مع القدّيسين بالصبر والجهاد الذي أمامنا، “مقتدِين مثلهم وناظرِين، إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع”، آمين.

من كتاب برج وجسد- الجزء الأول

للمطران بولس يازجي

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s