لوقا 14، 16- 24؛ متى 22، 14
الأحد الحادي عشر من لوقا
“لأن المدعوّين كثيرون والمختارين قليلون”
ماذا لو لم نستجب لدعوتنا المسيحية بسبب كثرة أعمالنا؟ وماذا لو استجبنا، هل هذا يمنعنا عن أعمالنا الكثيرة؟ أسئلة هامة تواجهنا مقابل “الميلاد” القادم.
يشدّد النصّ الذي سمعناه على أمرين: الأمر الأوّل هو حدث العرس الحاصل واهتمام السيّد في تهيئة كلّ شيء، حين أرسل عبيده إلى المدعوّين قائلاً: “تعالوا فقد أُعدّ كلّ شيء”. وكيف ألحّ ذلك السيّد على إقامة حفل العشاء ولو كان بعض المدعوّين قد رفضوه. فهو سيملأ بيته داعياً سواهم من الطرق والأسيجة والأماكن البعيدة. استخدام هذا النصّ الليتورجيّ على عتبة الميلاد، يعطينا المعنى العميق الذي فهمته الكنيسة في هذا المثل. وهو ما عبّر عنه الربّ يسوع في الخاتمة “إن المدعوّين كثيرون لكن المختارين قليلون”.
الميلاد، تجسُّد الربّ يسوع، هو العرس الحقيقيّ الذي تمّ بين الله السيّد والبشر المدعوّين. لقد اتّحد الله بالبشر بذلك العرس الإلهيّ المقدس. وصار الربّ يسوع مشرباً ومأكلاً حقيقيّين، ويمدّ الله الآب ابنه الآن عشاءً، فهو في الميلاد المقدِّم والمقدَّم، الذابح والذبيحة، العريس والوليمة. حقيقة الميلاد لا يهدّدها رفض بعض المدعوّين، فالعشاء قائم والميلاد قادم. لكن المشاركة أو الاستعفاء تفرز البشر بين مختارين أو رافضين.
يأتي المسيح ليلقي سيفاً على الأرض ويشعل ناراً ويفصل بين الجداء والخراف. حضرة الربّ لا تحتمل حياداً. إما نكون حارّين أو باردين. عدم تلبية الدعوة ليس حياداً. لأنه “من ليس معكم فهو عليكم”. يتوجه الربّ بالدعوة، وعدم الاجابة لا يعني الصمت ولكن يعبّر عن الرفض. العشاء قد أُعِدّ والربّ سيحقّق عرسه في المختارين من بين جميع المدعوّين.
التجسد الإلهيّ دعوة بدأت عند اليهود لكنّها لن تقف عندما يرفضها البعض منهم، إنّها دعوة لكلّ الناس حتى الذين لا يعتبرهم اليهود ويظنونهم أبناء طرق أو مبعدين عند أسيجة الحدود البعيدة. هذه الشمولية في حدث التجسّد والإيمان المسيحيّ هي منهجيّة أبديّة تمتحننا اليوم أمام حضوره كما امتحنت بني اليهود في زمنه. تجسّد الربّ، ونحن نبدأ بإحياء تذكاره في الميلاد القادم والقريب، هو عشاء للجميع ولن يكون حصراً على الهويات الدينيّة إذا لم يكن حاملوها من المختارين. المختارون، ليس من ظنّوا أن الربّ قد اختارهم، وإنّما هم الذين اختاروه.
أما الأمر الثاني فهو “العثرة” للقارئ من رفض المسيح لأعذار، هؤلاء “المهتمين” بأمور حياتهم، مستخدمين أعذاراً نسميها نحن، عموماً، واجبات. وهل المسيح يطلب منّا هذا الزهد عن الزراعة والتجارة والتربية والواجبات العائلية؟ كيف لم يقبل السيّد هذه الأعذار. وكيف صارت هذه الأسباب “عللاً خاطئة”؟
الأسباب التي منعت هؤلاء المستعفين عن العشاء هي أعمال ذلك الزمن الأساسية والضرورية للحياة. والله ذاته هو شاء ودبرها لحياتنا! فأين هو الخطأ الذي أثار غضب السيّد؟ يختلف اليوم بمظاهر هذه الأعمال إلا أنّ المسألة هي ذاتها. فلنا أيضاً همومنا وأعمالنا كأسباب “للاعتذار” نعتبرها هموماً “أساسية” تمنعنا عن المشاركة الفعّالة في سرّ العرس والعشاء وحدث الميلاد القادم.
الخطأ في كلّ هذه الأسباب الضرورية، أنّها وُجدت لنتجنّد بواسطتها وليس لنستعفي بسببها. هذه كلّها ليست عللاً للاعتذار وإنّما ظروف لرسالة. العشاء هناك سيتمّ وسط الحقل وفي الطريق بالتجارة وفي البيت. حيث المسيح هو خبزنا الجوهري الذي نشتريه بثمن باهظ من الصدق في أعمال الزراعة والتفاني في درب التجارة والتضحية بالحبّ في الزواج. المسيح هو “العريس” للمزارع وللتاجر وللمتزوج.
الأعمال مهما تبدلت في مظاهرها ليست هموماً نتعاطى معها بعيداً عن الله، وليست اهتمامات يشكّل الله اهتماماً إضافياً إلى جانبها. تسمح له حيناً بالتطفّل وأحياناً تطرده بعيداً مستعفية عن الاهتمام بما هو “أقلّ أهمية الآن”. علاقتنا بالله ليست اهتماماً بين اهتماماتنا، وليست بالأحرى همّاً آخر فوق همومنا. لا يقاسمنا الله خيراتنا ولا يطلب حصته من زمننا ولا جزءاً من اهتماماتنا. له منّا القلب وليس جزءاً من الحياة.
ليس الله انشغالاً بين كلّ أشغالنا، بل هو غاية كلّ أعمالنا. الخطأ الذي أغاظ السيّد في استعفاء هؤلاء المدعوّين، أنّهم حسبوه واحداً بين العديد من اهتماماتهم، حينها لا يبدو أنّه أهمّ من الأساسيّات في الحياة والتي هو باركها. لقد سلبوا منه مكانته الحقيقيّة، وهي أنّه هو غايتها. إنّنا نعمل ونتعب ونتاجر ونربي لكي نتعشى معه ذلك العشاء السرّي. لقد بارك الله الأعمال لكي نسعى بها وفيها إليه وإلى عشائه. تجسّد اللهُ في العالم لا ليخرجنا من العالم ولكن ليباركنا فيه. محبّة الله ليست لساعات خارج الزمن. محبّة الله فينا هي لتقديس كلّ زمن حياتنا. لقد أعدّ لنا السيّد عرساً ليصير هذا العرس اهتمامنا. وأعدّ لنا عشاءً ليصير هو طعامنا في وسط أعمالنا.
المدعوّون ليكون اللهُ غايةَ حياتهم هم كثيرون، لكن كثيرين يختارون الأشياء غاية لهم في الحياة، وقليلون هم المختارون الذين يطلبون الواحد الذي الحاجة إليه. من هؤلاء هم الأجداد الذين زرعوا وتاجروا وتزوّجوا وأنجبوا ولكن من أجل المسيح. مارس الأجداد كلّ شيء كشيء من الرسالة وليس كأمر للاستعفاء عنها. وهيّأوا بحياتهم ومن أعمالهم مجيء الربّ الأوّل. المسيحيّ مدعوّ إلى عشاء والعرس لا يعفيه من أعماله ولا تعفيه هذه من ذلك العشاء. كما هيّأ الآباء والأجداد الذين نعيّد لهم قبالة عيد الميلاد لمجيء السيّد الأوّل، هكذا المسيحيّ يحيا في أعماله، نعم، لكن ليهيّئ للمجيء الثاني المجيد للربّ بعد حضوره الأوّل المتواضع.
آميـن
من كتاب سفر الكلمة – الجزء الثاني
للمطران بولس يازجي