الأحد الـ 6 بعد العنصرة
رو 12، 6-14
“غير متكاسلين في الاجتهاد وحارّين بالروح”
“لأنك فاترٌ ولستَ بارداً ولا حاراً أنا مزمع أن أتقيأك من فمي”، هذا ما يقوله الشاهد الأمين الصادق (رؤيا 3، 15). سرّ الفرح في الحياة المسيحيّة هو أن نكون “حارّين بالروح”، وإلاّ لَعشنا المسيحيّة دون أن نذوق طعمها الحقيقيّ.
يربط بولس الرسول بين المواهب وبين حرارة الروح، وبالتالي مع الفرح. هناك أمران يجعلان المواهب أداةً لحرارة الروح والعكس صحيح، فإن المواهب دون هذين الأمرين تغدو سبباً للشقاقات الكنسيّة. “التنوّع” في المواهب ومن ثمّ “الوحدة” من المواهب، هما العاملان اللذان يشعلان حرارة الروح.
يشير هنا بولس الرسول إلى “مواهب مختلفة باختلاف النعمة المعطاة لنا”. تتنوّع المواهب وتزداد لسببين، الأول هو تعدد الحاجات والضرورات في الكنيسة، والثاني هو وجود أناس غير متكاسلين حارين، في هاتين الحالتين يسكب الله نعمته بغزارة ويعطي المواهب العديدة في حياة الكنيسة عبر مؤمنيها. فحيث تكثر الخطيئة هناك تكثر النعمة، وحيث الإنسان الحار والمجتهد هناك تكمل نعمةُ الله في ضعفه.
يعدّد بولس الرسول أكثر من مرّة المواهب بتنوّعها و يؤكد على احترامها مهما بدا بعضها بسيطاً أو ضعيفاً: “لا تطفئوا الروح” (1 تسا 5، 19-20). إن تنوع المواهب يُكملُ خدمة جسد المسيح الكنيسة. فكما أن الجسد البشريّ لا يتألف من عضو واحد هكذا لا تكتملُ الخدمة في الكنيسة من موهبة واحدة. إن الحاجات عديدة، للوعظ والخدمة والنبوءة والتعليم، والرحمة، والعطاء، إلخ… وغيرها الكثير يعدّدها بولس في نصوص أخرى.
أما تعدّد المواهب، فيهدّده الخطر بالتمييز، حيث يتعالى عضو على عضو. وتصير المواهب سبباً لمحبّة في رياء. وهذا يحصل عندما تُقيّم المواهب كقدرات خاصّة بالمؤمن، أي ملكية له أو ميزة فيه. بينما المواهب بلغة بولس الرسول ليست الفرادات أو الميزات النوعية التي يملكها المؤمن، إنما هي الهبة الإلهيّة التي أُعطيت لنا “نعمة”. فالمؤمن هو وكيل في الموهبة المعطاة له على نعمة الله التي فيها، وليس مالكاً لها. لذلك يحترم المسيحيّ موهبتَه كما أيّة موهبة عند الآخرين. وإذا كانت الموهبة بمثابة العضو في خدمة الجسد، فبحسب الرسول إن أضعف الأعضاء هي أكثرها كرامة. لذلك إذا نظرنا للمواهب على أنها “ميزات” خاصّة فإنها ستقودنا إلى الشقاق. أما إذا استعملنا المواهب كأداة للخدمة فعندها تصير للمحبّة و”نحب بعضنا بعضاً حباً أخوياً”.
تساهم المواهب عامّة ًفي وحدة جسد المسيح (بدل تمزيقه والفوضى فيه) من سببين. أوّلاً من مصدرها الواحد، وهو الروح القدس، إن الموهبة هي عطيّة الروح. السبب الثاني الذي يقود من اختلاف المواهب إلى وحدة المؤمنين هو غايتها الوحيدة، الحقيقيّة، وهي الخدمة. إن قيمة الموهبة لا تقدر من نوعيتها أو فرادتها أو ندرتها أو حجمها، إنما تقدّر من مقدار خدمتها ومساهمتها في بناء جسد المسيح الكنيسة (1 كور 12، 31).
لهذا يوصي بولس الرسول “لا تهمل الموهبة التي فيك” (1 تيم 4، 14)، ويذكر أن لكل واحد “موهبته الخاصّة” (1 كور 7، 7). يجب أن نفرح بالمواهب وتنوعها. ويجب أن نـزداد اتحاداً في تعدّدها لنكمل عمل الخدمة دون نقصان. ويجب أن نتّضع كلّما ازدادت الهبة حجماً. يقول الأدب الرهباني: الشجرة المثمرة منحنية.
فليبحث كلّ منا عن موهبته الخاصّة، وربما عن الكثير من المواهب التي يجهلها في ذاته، أو حتّى أنه يستهين بها. ولنعلم أن كلّ شيء مهما كان صغيراً، لأنّه عطيّة إلهيّة، فإن كرامته كبيرة. ولنعلم أن أهم ما في المواهب ليس حجمها ولا عددها، بل هو استخدامها. إذن لينظر كلّ منا إلى “كيف” يضع مواهبه في خدمة المحبّة التي بلا رياء.
بالوقت ذاته يأخذ المسيحيّ بكلمة بولس الرسول “كونوا غير متكاسلين” لأن الموهبة التي لا توضع في الخدمة تقتل الروح، والموهبة التي تُسخّر للخدمة دون تكاسل تجعلنا حارين بالروح عابدين للرب. ومن أُعطي له الكثير سيُطلب منه الكثير. لا شكّ أنه من المهم في الكنيسة، أن نكتشف المواهب المعطاة من الروح في كلّ أبنائنا. ولكن بالوقت ذاته تخضع المواهب للتنظيم والترتيب بحيث تقود في تعددها إلى وحدة الحياة المسيحيّة.
إن مارسنا المواهب “بالاجتهاد دون تكاسل” وبـ “المحبّة دون رياء”، عندها تصير أتعابها حطباً لشعلة الروح، آمين.
من كتاب برج وجسد- الجزء الأول
للمطران بولس يازجي