عيد النبيّ إيليا
“حيُّ هو الربّ إلهيّ… الذي أنا واقف أمامه”
هذه هي كلمات إيليّا النبيّ الذي نعيّد له اليوم، وتحمل كنيستنا والعديدون منا شفاعته واسمه. هل النبي هو من يقرأ لنا مستقبلنا، أم هو من يدفعنا إلى مستقبلنا؟ كيف ننظر إلى الأنبياء كقدوة؟ هل ربّهم هو ربّنا الحيّ فيهم وفينا؟
بالحقيقة لم يكن إله إيليّا حيّاً فقط، بل كان إيليّا أيضاً حيّاً بإلهه. “لقد قام إيليّا كالنار وتوقّد كلامه كالمشعل” (سيراخ 48، 1). هذه هي روح إيليّا التي أحبّها يسوع. لقد امتدح يسوع يوحنا المعمدان كثيراً ولم يرَ بين المولودين من النساء (بني البشر) أعظم منه، ولهذا قال عنه “قد جاء بروح إيليّا”. روح إيليّا هذه هي من الروح القدس، روح الحقّ. روح إيليّا هي الروح التي لا تقبل الخطأ بل تقيم الحقّ في كلّ شيء. روح كهذه لا تهاب إلا أن تخطئ إلى الله، ولا تكره شيئاً إلاّ الإساءة إلى الإنسان. بهذه الروح قام إيليّا على الملكة وبهذه الروح وبخّ المعمدان هيرودس.
نحن في عالم ممزوج فيه حَبُّ القمح مع الزؤان، والحقّ بالباطل، وغالباً ما نريد أن نصالح الأوّل بالثاني وأن نجمع بين النقيضين. لكن روح إيليّا سيف يقطع بين المتناقضات. أما نحن فنتأرجح بين روح إيليّا وبين تيارات العالم، بين الحقّ وبين الكذب، بين الجوهر والظاهر.
ليست لدينا الجرأة أن نقول للباطل إنّه باطل، حين هذا الأخير يملك بعض السلطة علينا، سلطة ربّما من الرغبات أو السلطان أو الأعراف الاجتماعيّة، الخ… لأن هذه المواجهة تحتاج لروح لا يصمت ولجرأة تقبل أن تتكلّف ثمناً مهما كان باهظاً. فمعيارها ليس الانتصار ولا الربح ولا المراكز، وإنّما الحقيقة والحقيقة فقط، لأنها اللؤلؤة الثمينة التي وجدناها فبعنا كلّ شيء لنا واشتريناها.
وما الذي دفع بإيليّا إلى النبوءة؟ ومن حرّكه بهذا العزم؟ هناك أمران يرسلان الإنسان في هذه الطريق. إنّه روح الله والخطيئة. حين تهيمن الخطيئة يجد روح الله في إنسان ما الشجاعة والشخصيّة التي تقبله فتتحرّك. حين ينسكب الروح في الإنسان بفيض، لا يعود يقبل الخطيئة ولا يهابها مهما بلغ عنفوانها أو ارتفع شرّها أو قوي سلاحها.
لقد تقدّم مرّة البعض إلى موسى وقالوا له: “إنّ بيننا من يتنبأ”! فأجابهم: “يا ليت شعبي كلّه أنبياء”! ولقد تكلّم يوئيل عن الأيّام الأخيرة، أيّام حضور المسيح، حين سيفيض روح الله على المسكونة وسيتنبّأ الشبّان والشابّات وليس الشيوخ فقط! أما بطرس الرسول فقد أعلن يوم العنصرة للمجتمعين أنّ نبوءة يوئيل هذه قد تمّت اليوم! إن يوم العنصرة هو يوم ميلاد الأنبياء! والعنصرة دائمة في التاريخ، في الكنيسة وأسرارها وعباداتها، الكنيسة إذاً مجْبل للأنبياء. الكنيسة حركة تجبل الطين بالروح فتخلق منه نبيّاً. كلنا أنبياء، أو أعطينا أن نكون كذلك، وذلك يوم المعموديّة عندما ننال سر مسحة الميرون المقدّس. عندها “نفرزُ للربّ” ونمسح له أنبياء الحقّ في العالم الممزوج بالباطل، لنكون سيفاً يلقي النور على أركان الظلمة ويقطع رأس الأفعى التي تندسّ في الدنيا لتلسع عقب الإيمان بسمّ الباطل.
النبيّ ليس “العرّاف” الذي يقرأ المستقبلات، هذه مهنة السحرة الذين يقرؤون الفنجان ويشبكون الخزعبلات من مسارات النجوم وشتّى ألوان السحر والشعوذة. النبيّ المملوء من روح الله يفهم الحاضر من إيمانه بالمستقبل. فروح الربّ الساكن والمتحرّك فينا يجعلنا لا نقبل الحاضر كما هو. وإنّما فقط كأداة لتحقيق المستقبل الذي نراه ونرغبه ونسعى إليه. وما هو هذا المستقبل إلا المشيئة الإلهيّة الصالحة للإنسان.
ينهض النبي النفوس الآن ليضمن وصولهم إلى المستقبل المطلوب. ليس الحاضر حُكماً طريقاً تصل للمستقبل المنشود، فقد يكون زمناً مسروقاً من زمن خلاصنا، أو طريقاً معوجّة تذهب بنا إلى حيث الله لا يشاؤه لنا، حينها يهدّد النبيّ وينبّه ويحذّر النفوس التي ترفض “التقويم”، “ويردّ قلوب الأبناء إلى آبائهم”، ويستنهض الضالّين إلى التوبة.
من هذا “المنظور النبوي” للزمن، الحاضر والمستقبل، يرى المؤمن الفساد والعتاقة التي يعتاد الناس عليها أحياناً، وذلك في علاقتهم مع الله والآخر. لذلك يتعرّض هذا الروح، روح الحقّ، إلى ألوان الرياء في الإيمان، ولا يقبل الانفصام بين الحياة والمبادئ، بين الأعمال والأقوال، بين ما نعرف وما نسلك! وتجعل روح الله حين تملأ القلب، الإنسان كياناً واحداً لا انفصام فيه، فيؤمن، وإيمانه هذا يصيّره “ما يؤمن”. هكذا يصير الإيمان الرأس والأعمال جسماً له.
روح الله، كما هي روح إيليّا والرسل والأنبياء والشهداء وسائر القدّيسين، والتي أعطيت لنا، تتقبّل كلّ العبادات كإشارات أو طرق تقودنا إلى الاتحاد بالله والوقفة أمامه، ولا تقبل بها مجرّد عادات تحصرنا في أطرها في التاريخ فتنقلب إلى مجرّد فلوكلور شعبيّ دينـيّ. “حيّ هو الله الذي أنا واقف أمامه”، والله الحيّ يتدخّل ويبدّل ويتشابك معنا في حياتنا. من لا تبدّله العبادة التي بالحقّ والروح، لم يعبد الله الحيّ بل إلهاً ميتاً. المسيحيّة نبويّة، أي ديناميكيّة. من لا يشعر كلّ يوم أن الأمس كان مغايراً وأن روح الله قد قاده إلى “ما هو أكثر” هو إنسان يعبد الوثن. من لا يشعر أنّه يتدرّج على درجات المستقبل ويد الله تشدّه هذا يطوف في حلقة مفرغة من الزمان ولا يسكن فيه روح الله كفاية. روح الله لا يقبل سكوناً، ما دام الله هو محبّة تشدّ الأرواح إليها دون توقف.
حيث روح الله هناك الحريّة. لذلك روح النبوءة هذه لا ترضخ للروابط والأعراف، حين هذه الأخيرة مرّات عديدة تناقض الحقيقة. آه، لو تأمّلنا في هذه الروابط التي تكبّل حياتنا اليوميّة، لا بدّ أن نرى الكثير منها منسوج من خيوط الرياء، والخوف، والقيم الزائفة، التي شبكتْها الضعفات البشريّة حين سكنت في قوالب السلطة دون استحقاق. لا يخاف الإنسان شيئاً كما يخاف هذه الروابط. ولا يستعبده شيء كما تستعبده هذه الأعراف. وكأنّها رياء صار ديناً وشريعة! سيف إيليّا ينقضُّ على هذه الشبكة المتشربكة ويظهرها عكس ما تبدو، فإذا بها أمام نار هذا السيف مجرّد خيوط عنكبوت تذرّيها الريح فلا تعود توجد. لم يعملْ إيليّا بهذه الروح في ظروف كان يبدو هو القويّ فيها وأعداؤه هم الضعفاء! على العكس تماماً، حين بدى أنّه الضعيف والضعيف جداً، وظهر أنّ أعداءه هم الأقوياء، حينها سكب إيليّا روح الله على ضعفه البشريّ “فخزى” قوّة الأقوياء. مَن يحمل روحاً كروح إيليّا لا ينظر إلى قوّته أو قوّة أعدائه، وإنّما ينظر فقط إلى إرادة الله القادرة أن تحقّق فيه ما هي تريده. المسألة ليست في أن نربح أو نخسر، إنّما في أن نطيع الروح أو نعصى، فإذا “تكلّم الربّ، فمَن لا يتنبّأ” (عاموس 3، 8). النبيّ يطيع الروح ولا يحسب تجاه هذه الطاعة أيّ شيء خسارة، ولو كلّفته أن يسلّم الرأس لراقصة تافهة (كالمعمدان). ليس أجمل وأشهى من”الطاعة” لمن لمسه الروح في قلبه، لا أعذب منها، حتّى الحياة عينها. “للربّ وحده تسجد وإيّاه وحده تعبد”، وأمام هذا الإله الحيّ لا نخضع لأيّ صنم أو روابط وثن. أمام هذه الروح تتحطّم الأوثان ولا تقبل أيّ رياء في أيّ رابط، لا رابط إلاّ كلمة الحقّ وخير الإنسان الحقيقيّ. بهذه الروح علينا أن نمرّ على بيدر روابطنا الاجتماعيّة فنذرّيها وننقّي حبوب الحقّ من زؤان الخدعة. بهذه الروح نمرّ على الفنون السائدة فنفصل ما منها “جميل” وما منها “غواية”. بهذه الروح نفرز بين العلاقات، ما منها “محبّة” وما منها “مصلحة”؛ بهذه الروح نشرف على علاقاتنا بالآخر فنقتل ما منها “الأنا” ونحيي ما منها “للآخر”.
“حيُّ هو الربّ إلهيّ… الذي أنا واقف أمامه وأحيا أنا به”.
آميـن
المطران بولس يازجي