متى 17، 14-23
الأحد العاشر من متّى
“إلى متى أحتملكم؟ أحضروه إليّ هنا”
يأتي حدث المصاب بالصرع ويعذّبه الشيطان بعد حدث التجلّي. مقارنة بسيطة بين الحدثَين تلقي ضوءاً على معانٍ عميقة في النصّ. فهناك في التجلّي يظهر مجد الله وهنا يظهر ألم الإنسان. هناك تتجلّى قوّة الله، وهنا سيطرة الشيطان وضعف التلاميذ. هناك يتمتعون أمام مجد سيّدهم وهنا يعجزون أمام آلام إخوتهم. هناك يشتهون البقاء معه في مجده وهنا لا يفيدهم مجدُه أمام رسالتهم.
لقد شعر التلاميذ بمجد الله وتمنّوا البقاء هناك. لكن يسوع يرفض كمالاً ومجداً لم يدفع الإنسان ثمنه عبر احتماله لآلام الناس.
أين يبلغ الإنسان كماله بحسب إرادة الله، أَفي جبل التجلّي أم وسط المعذّبين؟ هل يتمجّد الإنسان في التأمل بمجد الله أم بغسل أرجل الإخوة؟ هل ينتقل مجد الله إلينا حين نشاهده أو نسمع عنه أو نتكلّم عليه، أم عندما نسلك الدروب التي سلكها سيّدنا ربّ المجد؟
هل الكنيسة خزانة طقوس ومتحف فنون ندخل إليه فنعاين مجد الله؟ أم هي هيكل حيّ ندخل إليه وإذ بها تزجّنا في آلام قريبنا وتدفعنا لنسلك درب المسؤوليّة تجاهه وحينها تشترك بمجد سيدها؟
ليست الكنيسة هي مجرّد أعياد وطقوس رائعة ومنابر وعظ ومدارس لاهوت للتأليف والتأريخ. كلّ ما سبق هو صورة مجدها وليس فحواه. ما نفع كنيسة لا ترفع عذاب الناس؟ واضح من النصّ أن المعذَّب يريد أن يتّجه إلى الكنيسة ويترجّى فيها حلاً لآلامه وخلاصاً منها. وقد يكون أمراً معثّراً أن يفشل تلاميذ يسوع بطرد العذابات من حياة الناس الذين يقصدونهم.
لقد أسّس يسوع كنيسة من أجل حياة البشر، ونحن تلاميذه المسؤولون عن ذلك. لقد أسّس يسوع كنيسةً لجعل المجتمع كلّه ثابوراً يتقبّل مجده ويشاركه فيه.
إن الإنجيل ليس للشرح بل للتطبيق. وإن التواضع ليس فضيلةً للوصف بل للممارسة. وكلّ ما في المسيحيّة ليس ديناً نظريّاً بل طريقة عمليّة من أجل حياة الناس. يجب أن يمسّ المنبرُ الشارعَ والهيكل قلبَ الناس وحاجاتهم. الخطر في المسيحيّة هو تجربة بطرس على ثابور “يا سيد حسن أن نبقى ههنا”، أي أن نتمتّع بمجد مسيحيّتنا ناسين أن ذوق هذا المجد لا يتمّ إلا عبر درب السيّد في آلام الناس. ما نفع تلميذ يعاين نور ثابور ويعجز عن طرد شيطان.
القداسة ليست تأمليّة، ولا هي مسألة دينيّة معزولة عن الآخرين. الكنيسة مسؤولة عن المجتمع المعذّب. هذا هو عملها. إن عملنا هو تحرير الناس من آلامهم وأن نبني ملكوت الله مكان استعباد الشيطان للبشر.
إن مظاهر “الصرع” في مجتمعنا متعدّدة، وكثيرة هي الأمور التي يجب أن نحرّر الناس منها. حيث يوجد قهر وتغيّب للحريّة فهناك يسيطر عدوّ الإنسان. لأن روح الله يوجد حيث الحريّة. آه، كم هي متنوّعة وعديدة عبوديّات عصرنا! تحت كم من الأمور يركع الإنسان اليوم معذّباً، وكم هي متنوّعة صور الماء والنار التي كان يعذّب بها الشيطانُ ذلك المصروع في مجتمعنا اليوم.
ماذا يستعبدُ الإنسانَ اليوم ويعذّبه ويلقيه في النار؟ أهو انتشار العنف على كلّ الأصعدة؟ أم غياب العدالة الاجتماعيّة؟ أهو شريعة الغاب وانعدام حقوق الحياة الدنيا لكثيرين؟ أم، مرّات عديدة، هبوط مستوى التعليم والتربية؟ أم أيضاً المنافسة الرهيبة حول القرش وخنق الروح في حضارة الربح وزيفها. صور عديدة في حياة الناس اليوم تذكّرنا بهذا المصروع المعذّب الذي يلقيه الشيطان في الماء حيناً وفي النار تارّة أخرى.
لقد تمّ ثابور لكي ننـزل “جميعنا” إلى “هذا الإنسان المعذّب” وليس لنبقى هناك. يجب أن يطرد يسوعُ من المجتمع الشيطانَ بواسطتنا.
نعم، نحن نعجز عن طرد الشرور (الشرّير) من حياة البشر وذلك لأننا نقع في تجربة بطرس والتلاميذ. حين نتبع يسوع لمجده ولا نشاركه آلامه.
لا للتنظير في المسيحيّة. لا للتأمليّة والمشاعر السطحيّة. لن نتأمل مجد الله إلا بتحدّي وجه الشرّ في العالم. لن يتجلّى واحد بيننا حين ينعزل. علينا أن نسير بالعالم كلّه ومعاً إلى ثابور. نعم، “حسن أن نكون هنا” في ثابور ولكن بعد أن لا يبقى مصروع هناك. هذا القرار يؤهّلنا أن نخطو مع يسوع صاعدين إلى جبل ثابور، حين يعرف أننا سننـزل أيضاً معه إلى آلامه.
إلى متى أحتملكم؟ إلى متى تقولون لي يا ربّ يا ربّ وليس هناك من الإيمان إلا مظاهره؟ إلى متى يحتمل يسوع ميلنا ونزواتنا إلى روحنة المجد الإلهيّ كمسألة فكريّة. لا يستطيع تلميذ يعيش في السهولة والكسل أن يشارك مجد المصلوب. لن يتمتّع بنور ثابور من يريد أن يكون وحده مع يسوع.
سيشارك مجد ثابور ويرفع عتاب يسوع (إلى متى أحتملكم) مَنْ يسلك في الصلاة والصوم ويحمل مسؤوليّة الألم في العالم لتحرير الإنسان من الشرور والشرّير.
آميـن
من كتاب سفر الكلمة الجزء الثاني للمطرتن