الجناحان السماويّان -انتقال يوحنا الإنجيلي

انتقال يوحنا الإنجيلي

يوحنا 19، 25-27، 21، 24-25

انتقال يوحنا الإنجيلي (26 أيلول)

“من يعطيني جناحَين كالحمامة، فأطير وأستريح؟”

 

تأتي إلى ذاكرتنا هذه الآية الداؤوديّة بمناسبة عيد القدّيس يوحنا اللاهوتيّ الحبيب. فلنسألْ هذا الحبيب الذي اتكأ على صدر السيّد وسمع هناك كلماتٍ لا يُنطَق بها، فلنسأله إذاً كيف امتلك أجنحة النسور وطار بها إلى سماء اللاهوت وعلا إلى غمام الحبّ الإلهيّ، وما هي هذه الأجنحة السرية؟ يروي التقليد أنّ يوحنا الحبيب انتقل إلى السماء، ولا غرابة بذلك، لأنَّ المحبّة هي فوق الدينونات الأرضيّة.

من يعطيني جناحين لأستريح؟ لقد خُلقنا ميّالين إلى الله ولن نرتاح إلاَّ فيه. فمن يعطينا هذَين الجناحَين لنعلو بهما إلى الله؟

الإنسان كائن حيّ، طعامه الحقيقيّ السريّ هو المحبّة، إنّه لا يحيا “بالخبز وحده” وإنّما على الحبّ. أعطوا الإنسان كلّ الدنيا واحرموه المحبّة يَمُتْ. الإنسان كالنسر، إذا سجنّاه في قفصٍ وقدَّمنا له عجلاً للطعام، لا يأكله بل يموت. لا تحيا النسور على اللحم وحسب وإنّما بالتحيلق عالياً، لتبسط أجنحتها في السماء وتراقب الأرض من عَلُ، هكذا يحيا الإنسان على المحبّة، يطلب أن يحبّ ويرغب أن يحبّ. الحبّ هو طعم الحياة. الحياة دون محبّة جحيم. العزلة موت.

الإنسان “رجلُ الشهوات”، عاشقٌ وهائمٌ على الدوام. جائعٌ للروح. لكنّ، للأسف، يَتَعَشَّق مرّاتٍ عديدةً سمومَ الحياة بدلاً مِنْ مَنِّها، وتضحي المحبّة مميتةً بدل أن تكون مُحيية. محبّة كهذه ليست جناحاً يحملنا إلى السماء بل أثقال ترمينا إلى الحضيض أوّل أخٍ قتلته الغيرةُ، وحبُّ صحنِ حساءٍ باع بكوريةً.

لكن ما هو اللون الآخر للمحبّة؟ إنّها المحبّة الجديدة التي يتكلّم عنها الإنجيل. تلك التي لا تعرف أن تقتل آخراً وإنّما تقتل حاملها على الدوام؛ تقتله فتحييه، وتقيمه فمن أهلك نفسه من أجل المسيح يجدها، ومن أحبَّ نفسه ذلك الحبّ المميت يخسرها. هذه هي المحبّة والوصيّة الجديدة التي جلبها الإنجيل إلى دنيانا، هذه المحبّة هي إذاً الجناح السماويّ الذي يرفعنا إلى الله فنستريح.

لكن من يعطينا هذين الجناحين؟ أي من يجعلنا نحبّ موتَنا؟ من يقلبنا من إنسانٍ مفطور على محبّة مميتة، وعشقٍ للمال، والأمجاد، واللذات، إلى إنسانٍ جديدٍ يعشق صليباً ويموت لأجل الآخر؟ من ينشل الإنسان من فلسفة الوجوديين، التي ترى الآخر “جحيماً”، وتضعه في درب سيرافيم ساروف الذي نادى القريب “يا فرحي” ووجد فيه “فردوساً”؟ من يجعلنا قادرين أن نحبّ حتّى الموت؟ كما يقول نشيد الأنشاد “قد أحببتك كالموت”؟

لا شكّ أنّها المحبّة الإلهيّة. فكما سمعنا خاتمة الرسالة من فم يوحنا الحبيب أنّه لا نحبّ نحن الله إلاَّ لأنَّه أحبَّنا أولاً. نعم، نحن بجرحه شُفِينا. مذ رُفِع يسوعُ حُبَّاً بِنَا جرَحَ أفئدتنا: “عندما أُرفَع سأرفع معي كثيرين”. مات سيدنا حباً فأحببنا موته. مات الربّ من أجل القريب فعشقنا القريب الذي مات من أجله.

من يعطينا إذاً الجناحين لنطير ونستريح؟ إنّها المحبّة، المحبّة الإلهيّة لنا، التي تجعلنا نحيا على المحبّة المُحيية ولو كانت عبر الصليب.

ليست المحبّة اختراعاً مسيحيّاً. كلّ الأديان تبحث في محبّة الله للبشر وفي محبَّتهم لله، ولهم في ذلك فلسفات عديدة. في العهد القديم كانت المحبّة هي الوصيّة الأولى والثانية. فالأولى أحبب الربّ إلهك؛ والثانية أحبب قريبك. لكن الجديد في الوصيّة المسيحيّة: “وصيّة جديدةً أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً” ليس إلاَّ، أنَّ يسوع ألغى تجزيء المحبّة إلى وصيتَين، نحو الله والأخرى نحو القريب، وجعل الوصيتَين وصيّة واحدة. الجديد في المحبّة مسيحيّاً ما يقوله يوحنا اللاهوتيّ في رسالة اليوم، لا نستطيع أن نحبّ الله إن لم نحبّ القريب. إنَّ الله لم يرَه أحد قطّ. فلا يمكنك أن تحبّ الله الذي لا تراه إذا كنت لا تحبّ القريب الذي أمامك.

يفسّر آباؤنا الجناحين، فالأوّل هو العمل والثاني هو الرؤيا. والمقصود بالعمل هو ممارسة الفضائل المسيحيّة وأعمال المحبّة. المحبّة كلمة مظلومة، لأننا غالباً ما نفسدها، حين نصعّدها إلى مستوى المشاعر والنيات فقط، وننـزعها عن أرض الخدمة والتضحيات. المحبّة هي عمل. هل تحب؟ هذا السؤال يعني: ماذا قدمت؟ هل تحب يعني: بماذا ضحّيت؟

والمقصود بالرؤيا الجناح الثاني هو معاينة الله ومعرفته. نرنّم للأبرار: “لقد وَجَدتَ بالعمل المرقاةَ إلى الثاوريا (الرؤية)”. فبأعمال المحبّة نتعرف على الله، لأنَّه بأعمال المحبّة يثبت الله فينا ونثبت فيه.

فمحبّة القريب تجعلنا نعاين الله ونحبّه. محبّة القريب هي المرقاة، وهي العمل الذي ينقلنا إلى محبّة الله. رؤية الله، الذي لا يراه أحدٌ قطّ، غير ممكنة للإنسان إلاَّ إذا أحبّ مَنْ يراه دوماً. عمل المحبّة لا يُقدَّم لله الذي في سمائه وإنّما إلى القريب الذي أمامنا.

هل نريد أن نصل إلى الثاوريا وإلى اللاهوت؟ علينا إذاً بالمحبّة. هل أنت لاهوتيّ وتبغض؟ أنت مخدوع! هل تتكلّم عن الله وأنت لا تحبّ القريب؟ فأنت تتكلّم عن وثن وليس مع الله الحي، والله لا يعرفك ولا يثبت فيك. أحببْ واصنعْ ما تشاء فالمحبّة لا تسقط ولا تخطئ أبداً.

أحبب بالفعل فتطير بالرؤيا وتستريح. آميــن

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s