عيد القدّيسين قسطنطين وهيلانة
“رأيتُ في نصف النهار على الطريق نوراً من السماء…”
معنا في المقطع اليوم، من أعمال الرسل، كيف يروي بولس قصّته مع يسوع المسيح على أبواب دمشق للملك أغريبا. ولطالما فعل بولس ذلك مرّات عديدة. لقد رأى نوراً – يقول- في وسط النهار لكنّه كان يفوق لمعان الشمس!
وهذا ما جرى تماماً مع قسطنطين الملك، حين رأى علامةً من نور في السماء، هي إشارة الصليب، وسمع صوتاً يقول له: “بهذه الإشارة تغلب”! لذلك تقرأ لنا الكنيسة هذا المقطع الذي تتشابه به خبرة بولس مع قسطنطين. لكن بولس وقسطنيطين وإن كانا يشتركان في هذه الخبرة – الدعوة من السماء مباشرة- إلاّ أنّهما يمثّلان عالمَين مختلفَين.
قسطنطين الملك هو ابن الملك قسطانديوس، رأى في إحدى حروبه علامة الصليب في السماء، وانتصر بها. ويعود له الفضل في استصدار مرسوم ميلانو سنة 313 الذي منع اضطهاد المسيحيّة، فسمح بحريّة الأديان وبعدها حدّد الأحد يوماً مقدّساً في الأسبوع، كما شجّع قسطنطين انتشار المسيحيّة، وكان محبّاً لوحدة الكنيسة، وله الفضل في دعوة المجمع المسكوني الأوّل سنة 325 في نيقية. لا نعرف متى اعتنق قسطنطينُ المسيحيّة رسميّاً، ربّما قبل وفاته، والبعض يقول أنّ الأسقف سِلفسْتروس عمّده بعد إصابته بالبرص وشفاه. وكانت أم قسطنطين القدّيسة هيلانة تقيّة، وهي مَن أوجد خشبة الصليب وبنتْ كنيسة القيامة في أورشليم. أخرج قسطنطين المسيحيّة من عالم الدياميس ووضعها على سدّة الحضارة العالميّة الكبرى آنذاك؛ بعد أن كانت المسيحيّة دينَ أقليّة تقيّة مضطّهَدة غدتْ دِينَ العالم الواسع، ولقد أخرجها قسطنطين إلى هذا التحدّي الرهيب، وكان ذلك للكنيسة فرصةً تاريخيّة.
أمّا بولس فهو رجل الكلمة الناريّ المبشِّر باسم يسوع المسيح الحيّ! وهذا بولس أخرج الكنيسة من عالمها اليهوديّ العبريّ الضيّق إلى مواجهة ثقافات وأديان العالم (اليونانيّ – الأمم) آنذاك. فخاطب هو فلاسفة أثينا ونشر إيمان أورشليم في آسيا ومكدونية وكلّ أوروبا المعروفة آنذاك. بولس ختمَ على شموليّة الدّين المسيحيّ وأنقذه من فخّ التقوقع الإثنيّ.
منعطفان كبيران في التاريخ المسيحيّ، الأوّل هو نقلة المسيحيّة على يد بولس إلى كلّ الأمم، والثاني هو نقله المسيحيّة من حياة التقوى الدينيّة الضيّقة إلى رسالة مسحنة الحضارات العالميّة. لذلك تسمّي الكنيسةُ قسطنطين الملك بـ”المعادل الرّسل”. وتقول الترنيمة: “يا ربّ إنّ قسطنطين الذي هو رسولك في الملوك، لمّا شاهد رسم صليبك في السماء عياناً، وبمثابة بولس قبل الدعوة ليس من البشر…”.
قسطنطين أم بولس؟ مَن منهما يمثّل لنا القدوة في نقل البشارة. يرى البعض تناقضاً رهيباً بينهما. فيميل الواحد إلى بولس والآخر إلى قسطنطين. يؤمن الأوّلون أنّ ارتكاز المسيحيّة على الإمبراطوريّة يفسدها، وينشدون بشارة بقوّة فم بولس وبأتعاب أقدامه. بينما يرى آخرون أنّ الكلمة الناريّة وحدها لا تحقّق شموليّة المسيحيّة ولولا قسطنطين لما صارت المسيحيّة ديناً عالميّاً، إن لم نقلْ دِين العالم! أيّهما لنا أداة للبشارة: كلمة الله أم سيوف الأباطرة؟
لا شكّ أنّ المسيحيّة ليست دِيناً يبرّر العنف من أجل البشارة وأنّها اعتمدت على سيف الكلمة الإلهيّة، وطلب يسوع من بطرس أن يردّ سيفه إل غمده، لأنّ مَن يأخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ. المسيحيّة دِين يحبّ عمق الكلمة ويمنع عنف القّوة. لكن بالوقت ذاته هذا لا يعني خلافاً مع العالم وطلاقاً مع وجه القوّة فيه! فإنّ كانت الكلمة للمسيحيّة هي درب البشارة وقوّتها فإنّ “الإمبراطوريّة” والمدنيّات الحديثة هي بالنهاية غايتها وساحتها. لا تعتمد المسيحيّة على قوّة الأباطرة لنشر إيمانها لكنّها تعرف أنّ واجبها ليس الوصول لجماعات وإنّما للجميع. فكلّ حضارة بالنسبة للمسيحيّة هي ساحة للمسحنة. تنطلق المسيحيّة بفم بولس ولكنّها تلمس قلب قسطنطين. تؤسَّس كلّ المدنيّات والحضارات بالفكر البولُسيّ، وبقسطنطين نجعل بولس للجميع. لا تعارُضَ بين بولس وقسطنطين وإن اختلف عالمهما. مملكة يسوع ليست من هذا العالم، لكن هذا العالم هو مادّة الملكوت.
القفزة المسيحيّة من الاثنيّة العبريّة إلى الشموليّة العالميّة، مع بولس الرسول، تتوّجتْ مع قسطنطين بالقفزة من التقويّة الفرديّة إلى المسيحيّة العالميّة المسؤولة عن المدنيّة والحضارة الإنسانيّة بمعناها الكونيّ. ليست المسيحيّة ديناً تقويّاً لمن شاء من الناس بل هي ملكوت الله فيه جميع الناس! المسيحيّة مسؤوليّة جماعيّة تجعل دور الملك كرسولٍ ودور الرسول فتح الإمبراطوريّة بسلام الكلمة والإيمان. لأنّ كلّ حضارة ينقصها الروح وتغيب عنها الكلمة تغدو غابةً يقتنص فيها الخداعون الغنائم، وكلَّ كلمة حقّة تستحقّ أن تزيّن وتوجّه الحضارة الإنسانيّة، هذه رسالة بولس وقسطنطين نسعى بهما إلى العالم، آمين.
من كتاب برج وجسد للمطران بولس يازجي
ربنا يحفظ لنا بولس و يعيدة سالماً معافى
Envoyé de mon iPhone