يوحنا 1، 44-52 الأحد الأول من الصوم (أحد الأرثوذكسيّة)
“وجهـــك يــا ربّ أنــا ألتمــــس”
يروي النصّ الإنجيليّ لقراءة اليوم لنا حواراً بين فيليبّس ونثنائيل. موضوع هذا الحوار ومركزه هو المسيح، فيخبر فيليبّسُ نثائيلَ أنّنا “قد وجدنا المنتظَر والمكتوب عنه في كتب موسى والأنبياء”، إنّه يسوع.
ما الذي يربط هذا النصّ بعيد رفع الأيقونات اليوم، أو كما يسمّى أحد الأرثوذكسيّة؟ لو أنّنا استبدلنا كلمةً في عبارة الحوار: “وجدنا يسوع”، بكلمةٍ تكرّرت في النصّ أكثر وهي (نظرنا)، لأدركنا كيف تربط الكنيسة هذا النصّ بعيد رفع الأيقونات. إنَّ أكثر فعلٍ يمرّ بالنصّ هو ما يتعلّق بالرؤية والنظر، إنّه نصٌّ إنجيليٌّ يقدِّس العيون. فتتكرّر عبارة: “رأى” و”نظر” و”انظر”… بمشتقاتها سبعَ مرّات.
“الله لم يرَه أحدٌ قطّ”، ولكنّ هذه الرغبة برؤية الله كانت أبداً الشوق الإنسانـيّ الملتهب طيلة العهد القديم، ولكنّها رغبةٌ لم تتحقّق. إنَّ أجلى تجليات الله لرجال العهد القديم كانت مع موسى وإيليا. وعلى طلب موسى: “أرِني مجدَكَ”، أجابه الله: “أظلّلك بيدَيّ إبَّان اجتيازي… أما وجهي فلا يُرى”[1]. وأمَّا إيليا فسمع صوتاً فقط[2]. وهكذا راح الله يكشف ذاته للناس أكثر فأكثر بطرقٍ مختلفة، إلى أن حان ملء الزمان واستطاع إنسانٌ كفيليبس أن يقول لنثنائيل: “تعالَ وانظرْ (الله يسوع)”. ولهذا طوّب المسيحُ عيونَ التلاميذ التي رأت عن قربٍ ما “اشتهى أن يراه كثيرون من الأنبياء والصديقين، ولم يروه”[3]؛ وإبراهيم رأى أنّ هذا اليوم قد تحقّق ففرح وتهلّل[4].
كانت الوثنيّة تصنيماً وتأليهاً لأهواء البشر، فيعبدون في الوثن أهواءهم ومثُلَهم. الوثنيّة هي عبادة إلهٍ نحن خلقناه لذا يجوز فيها كلام سارتر (Sartre)، أنَّ الله أكبر خدعةٍ في حياة الإنسان.
في العهد القديم، لم يكن الله قد ظهر للعيون، كان يظهر للناس بأفعاله وبتدخّلاته وقيادته للتاريخ الخلاصي، لذا حرّمت الوصايا العشر صنع أي رسم أو منحوت لله خوفاً من الوقوع في الصنمية والوثنيّة. إله الكتاب المقدّس هو إلهٌ يكشف لنا ذاته كما هو وليس كما نظنُّه أو نريده.
لذلك بعد تجسّد المسيح، “الله الربّ ظهر لنا بالجسد”، وصار من الممكن أن نرسم للابن أيقونة، لأنّنا قد رأيناه و”وجدناه”[5]. لذا من الممكن الرسم الأرثوذكسي لا يُحَبِّذ رسم الآب. أما الروح فنراه بشكل حمامة (من المعموديّة) أو ألسنة نارية (من العنصرة) فقط.
الأيقونة هي وساطة، بمعنى أنّها أداةٌ تصلنا بالله، الله الذي نُغيّبه عن أغلب ساعات يومنا، فتأتي الأيقونة لتُحضِرنا إلى حضرته وتذكّرنا بندائه: “أنا على الباب واقفٌ أقرع”[6]. الأيقونة هي وسيطٌ أيضاً أي في الوسط، لذلك نضعها وسط عملنا، وبيتنا، على الجدران في غرف النوم وفي غرف الجلوس، في المحفظة والكتاب… وكيفما التفتنا تكون هي في الوسط. ويصير الله شيئاً فشيئاً ومن خلالها وسط الحياة.
المسيح، هو من نسعى إليه، ومن نشتهي أن نراه. هذا هو الموقف المسيحيّ للحياة. وحين ارتفعت صورة المسيح وصور قديسيه عالياً في المجمع السابع (842 م.)، ارتفع معها هذا الهدف واضحاً. والأيقونات المرفوعة في المنازل والكنائس… ما هي إلاَّ إعلان هذا الهدف والتزامه.
على أنّ رؤية الله من خلال الأيقونة تخضع لذات الشروط التي نراه فيها من خلال النصّ الكتابي أو الإنجيل، وهي شرط نقاوة القلب. كم من أناسٍ رفعوا الأيقونات ولم يقرؤوا من ذلك شيئاً، وكم من أيقونات يصيّرها استخدامها منا مجرّد “تابلو” لوحات في منازلنا، لم يشتعل أمامها يوماً قنديلٌ ولا حتى قلبُ عابدٍ! الأيقونة كلمةٌ تنادي إلى عبادة، إلى محبة، إلى تفاعل!
فلأيقونتك الطاهرة لك نسجد أيّها الصالح
لأنّه “لله وحده تسجدْ وإياه وحده تعبدْ”[7]. آميــن.
[1] خر 33: 18-23.
[2] 1مل 19: 13.
[3] مت 13: 16-17.
[4] يو 8: 56.
[5] يو 1: 45.
[6] رؤ 3: 20.
[7] مت 4: 10.